المَدْرَسَةُ المُسْتَنْصِرِيَّةُ
“جامِعَةُ المَذاهِبِ الأَربَعَةِ الأُولى في العالمِ الإسلامي”
هي دُرَّة مدارس وجامعات العاصمة العباسية بغداد وأهمها. أُسِّسَت في زمن الدولة العباسـية ببغداد (631 هـ/1233م) على يدِ الخليفةِ المُستَنْصِرِ بالله، الخليفة العباسي السابع والثلاثين، وعُرفَت باسمه.
هي أول جامعة في العالم الإسلامي عُنيَت بدراسة علوم القرآن، والسنة النبوية، والمذاهب الفقهية، وعلوم العربية، والفلسفة، والرياضيات، وقسمة الضرائب والتركات، ومنافع الحيوان، وعلم الطب والصيدلة وحفظ قوام الصحة، وتقويم الأبدان في آنٍ واحدٍ، كما أنها أول جامعة إسلامية جُمِعَت فيها الدراسات الفقهية على المذاهب الإسلامية الأربعة (الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي) في بناية واحدة هي مدرسة الفقه. ولم يكن الأمر قبلها على هذه الصورة، فاختصّت كل واحدة من المدارس التي قبلها بتدريس مذهبٍ معينٍ من هذه المذاهب.
إنّ هذه المدرسة العريقة كانت مركزًا علميًا وثقافيًا، وكانت جامعةً إسلاميةً كبرى تُدَرَّسُ فيها كل العلوم المعروفة في ذلك الوقت إضافة إلى تدريس فقه المدارس المذهبية الأربعة، وكان للمدرسة نظام دقيق لتحديد عدد المدرسين والطلاب الذين تستوعبهم المدرسة، وكانت الدراسة على نفقة الدولة، وكانت مكتبتها زاخرة بأعداد ضخمة من المجلدات النفيسة والكتب النادرة، وبلغ تعدادها 450 ألفًا، وتُعَدُّ مرجعاً للطلاب، ومدة الدراسة في المستنصرية عشرة أعوام وبعد انتهاء الدراسة يمنح الطالب شهادة التخرج التي تؤهله التوظف في دواوين الدولة.
المدرسة المستنصرية هذه الجامعة التي هي أعظم مدرسة في تاريخ الإسلام الوسيط؛ كانت تأتي أهميتها في تلك الحقبة الزمنية من خلال كونها مؤسسة رسمية تُمَوِّل الدولة بالكوادر العلمية، حيث تَمَيَّز العصر العباسي الأخير عن غيره من العصور الإسلامية التي سبقته بظهور المدارس أماكن للتعليم عند المسلمين حيث أصبح نظام المدرسة من الضروريات التي تَتَطَلَّبَها الظروف المستجدة في الواقع العربي الإسلامي نتيجة لتطور المجتمع وظهور الحاجة إلى أن تُشْرِف الدولة على النظام التربوي لتحقيق أهدافها وسد حاجتها من الموظفين الرسميين والإداريين لإشغال مناصب الدولة ووظائفها ولهذا أصبحت المدرسة منظمة رسمية من منظمات الدولة يتخرج فيها عمال الدولة وموظفوها.
لقد أُرِيدَ لهذه المدرسة البقاء والازدهار والاستمرارية في نهضة علمية شاملة، لذا وَقَّفَ الخليفة المستنصر على هذه المدرسة أوقافًا كثيرة، تكفل لها البقاء، وترف العيش لمن ينتسب إليها، فقد ذكر الذهبي أن “قيمةَ ما وُقِف عليها يُساوي ألف ألف دينار”[سير أعلام النبلاء ص1586؛ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي]؛ مليون دينار ذهبي وهو مبلغ ضخم للغاية، وكان العائد السنوي الذي تغُّله هذه الأوقاف يبلغ نيفًا وسبعين ألف مثقال من الذهب.
تقع المستنصرية في جهة الرصافة في الجانب الشرقي من بغداد، على ضفة دجلة اليسرى، بجانب “قصر الخلافة” بالقرب من المدرسة النظامية وقريباً من رأس الجسر الشمالي المسمى جسر المأمون حينها. ومكانها اليوم بجوار جسـر الشـهداء نهاية شـارع النهر في بغداد الرصافة.
وصفها القرماني عندما قال مادحاً جمالها وشكلها البهي إنّها مدرسةٌ لم يَبْنَ على وجه الارض أحسن منها.
قال المؤرخ ابن العبري (ت685هـ) في وصفها: “لم يُعمّر في الدنيا مثلها، فعُمِّرَت على أعظم وصف في صورتها وآلاتها واتساعها وزخرفها وكثرة فقهائها ووقوفها. ووقفها على المذاهب الأربعة ورَتَّب فيها أربعة من المدرّسين في كل مذهب مُدَرِّس وثلاثمئة فقيه؛ لكلّ مذهب خمسة وسبعون فقيها. ورتّب لهم من المشاهرات والخبز والطعام في كل يوم ما يكفي كل فقيه ويفضل عنه، وبنى لهم داخل المدرسة حمّاما خاصا للفقهاء وطبيبًا خاصّا يتردّد إليهم في بكرة كل يوم يفتقدهم ومخزنًا فيه كل ما يُحتاجُ اليه من أنواع ما يطبخ من الأطعمة ومخزنًا آخر فيه أنواع الأشربة والأدوية”[ابن العبري: تاريخ مختصر الدول ص234].
زارها الرحالة ابن بطوطة في سنة (727هـ/1326م) فقال: “بها المذاهب الأربعة، لكل مذهب إيوان، فيه المسجد وموضع التدريس، وجلوس المدرّس في قبة خشب صغير على كرسي عليه البسط، ويقعد المدرّس وعليه السكينة والوقار، لابسًا ثياب السواد معتمًّا، وعلى يمينه ويساره مُعيدان يُعيدان كل ما يُمليه، وهكذا ترتيب كل مجلس من هذه المجالس الأربعة”[رحلة ابن بطوطة].